أى: ثم بعثنا من بعد نوح- عليه السلام- رسلا كثيرين ذوى قدر عظيم إلى أقوامهم، ليخرجوهم من ظلمات الكفر إلى نور الايمان فهود- عليه السلام- أرسلناه إلى قوم عاد، وصالح- عليه السلام- أرسلناه إلى ثمود، وهكذا أرسلنا رسلا كثيرين إلى أقوامهم.
وقوله: فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أى: فأتى كل رسول قومه بالمعجزات الواضحات، وبالحجج الساطعات الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.
وقوله- فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ بيان لموقف هؤلاء الأقوام الجاحدين من رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم وسعادتهم.
وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال:
فمنهم من يرى أن الضمائر في «كانوا، ويؤمنوا، وكذبوا» تعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح- عليه السلام- وأن المراد بقوله: مِنْ قَبْلُ أى: من قبل مجيء الرسل إليهم.
والمعنى على هذا الرأى: ثم بعثنا من بعد نوح- عليه السلام- رسلا كثيرين إلى أقوامهم فجاءوهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، إلا أن هؤلاء الأقوام الأشقياء. استمروا على كفرهم وعنادهم، وامتنعوا عن الإيمان بما كذبوا به من قبل مجيء الرسل إليهم وهو إفراد الله- تعالى- بالعبادة والطاعة فكان حالهم في الإصرار على الكفر والجحود قبل مجيء الرسل إليهم، كحالهم بعد أن جاءوهم بالهدى ودين الحق، حتى لكأنهم لم يأتهم من بشير ولا نذير.
ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى الإمام البيضاوي فقد قال: «قوله: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أى: فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر، وخذلان الله إياهم.. بما كذبوا به من قبل، أى بسبب تعودهم تكذيب الحق، وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل- عليهم الصلاة والسلام-»
ومنهم من يرى- أيضا- أن الضمائر تعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح- عليه السلام- إلا أن المراد بقوله مِنْ قَبْلُ: أى: من قبل ابتداء دعوة الرسل لهؤلاء الأقوام.
وعليه يكون المعنى: ثم بعثنا من بعد نوح- عليه السلام- رسلا كثيرين إلى أقوامهم، فجاءوهم بالأدلة الواضحة الدالة على صدقهم، إلا أن هؤلاء الأقوام قابلوا رسلهم بالتكذيب من أول يوم، واستمروا على ذلك حتى آخر أحوالهم معهم، فكان تكذيبهم لهم في آخر أحوالهم معهم، يشبه تكذيبهم لهم من قبل. أى: في أول مجيئهم إليهم.
ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى: الإمام ابن كثير فقد قال: «قوله: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أى: فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم، بسبب تكذيبهم إياهم أول من أرسلوا إليهم، كما قال- تعالى- وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ .
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله «كانوا ويؤمنوا» يعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح- عليه السلام- وأن الضمير في قوله «كذبوا» يعود إلى قوم نوح، وعلى هذا الرأى يكون المعنى:
ثم بعثنا من بعد نوح- عليه السلام- رسلا إلى أقوامهم. فجاءوهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم، ولكن هؤلاء الأقوام استمروا في كفرهم وعنادهم، وأبوا أن يؤمنوا بوحدانية الله التي كذب بها قوم نوح من قبل.
ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى الإمام ابن جرير فقد قال «قوله: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ يقول: «فما كانوا ليصدقوا بما جاءتهم به رسلهم وبما كذب به قوم نوح ومن قبلهم من الأمم الخالية..».
وعلى أية حال فهذه الأقوال الثلاثة، تدل على أن هؤلاء الأقوام عموا وصموا عن الحق، واستمروا على ذلك دون أن تحولهم الآيات البينات التي جاءهم بها الرسل عن عنادهم وضلالهم.
وقوله: كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ بيان لسنة الله- تعالى- في خلقه التي لا تتخلف ولا تتبدل. والطبع: الختم والاستيثاق بحيث لا يخرج من الشيء ما دخل فيه، ولا يدخل فيه ما خرج منه.
أى: مثل ذلك الطبع المحكم نطبع على قلوب المعتدين المتجاوزين للحدود في الكفر والجحود، وذلك بخذلانهم، وتخليتهم وشأنهم، لانهماكهم في الغواية والضلال.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك، جانبا من قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه، فبدأت بحكاية بعض المحاورات التي دارت بينه وبينهم، فقال- تعالى-: