وقوله- تعالى- فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ ... إرشاد إلى أن الأمم إذا خلت من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حلت بها المصائب والنكبات..
ولولا: حرف تحضيض بمعنى هلا. والمقصود بالتحضيض هنا تحذير المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ومن يأتى بعدهم من الوقوع فيما وقع فيه أهل القرون الماضية من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى لا يصيب اللاحقين ما أصاب السابقين.
والقرون: جمع قرن، والمراد به الأمة من الناس الذين يجمعهم زمان واحد، والراجح أن القرن مائة عام.
وأُولُوا بَقِيَّةٍ أى: أصحاب مناقب حميدة، وخصال كريمة، وعقول راجحة ...
وأصل البقية: ما يصطفيه الإنسان لنفسه من أشياء نفيسة يدخرها لينتفع بها، ومنه قولهم:
فلان من بقية القوم، أى: من خيارهم وأهل الفضل فيهم، قال الشاعر:
إن تذنبوا ثم تأتينى بقيتكم ... فما على بذنب منكم فوت
وفي الأمثال: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا.
والفساد في الأرض: يشمل ما يكون فيها من المعاصي واختلال الأحوال وارتكاب المنكرات والبعد عن الصراط المستقيم.
والمعنى: فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين كانوا من قبلكم، رجال أصحاب خصال كريمة، وعقول سليمة، تجعلهم هذه الخصال وتلك العقول ينهون أنفسهم وغيرهم عن الإفساد في الأرض، وعن انتهاك الحرمات؟.
كلا إنهم لم يكن فيهم هؤلاء الرجال الذين ينهون عن الفساد في الأرض، إلا عددا قليلا منهم أنجيناهم بسبب إيمانهم ونهيهم عن الفساد في الأرض.
وفي هذا من التوبيخ لأهل مكة ولكل من تقاعس عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ما فيه، لأن الله- تعالى- بين أن عذاب الاستئصال الذي حل بالظالمين السابقين، كان من أسبابه عدم نهيهم عن الفساد في الأرض.
قال الشوكانى: والاستثناء في قوله إِلَّا قَلِيلًا ... منقطع، أى: لكن قليلا ممن أنجينا منهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، وقيل: هو متصل، لأن في حرف التحضيض معنى النفي، فكأنه قال: ما كان في القرون أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، إلا قليلا ممن أنجينا منهم، ومن في قوله مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ بيانية، لأنه لم ينج إلا الناهون» .
وقال ابن كثير: ولهذا أمر الله- تعالى- هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأولئك هم المفلحون، وفي الحديث: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده» ولهذا قال: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ... .
وقوله: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ ... إشارة إلى أن هؤلاء القاعدين عن النهى عن الإفساد في الأرض، قد استمروا على فجورهم وفسقهم دون أن يلتفتوا إلى خصال الخير، وإلى سبيل الصلاح.
وأترفوا من الترف ومعناه التقلب في نعم الله- تعالى- مع ترك شكره- سبحانه- عليها.
والمترف: هو الشخص الذي أبطرته النعمة، فانغمس في الشهوات والمعاصي، وأعرض عن الأعمال الصالحة ...
والجملة الكريمة معطوفة على كلام مقدر يقتضيه الكلام، والمعنى: أن هؤلاء الذين لم يكن فيهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا من استثنى، قد استمروا في طغيانهم، واتبعوا ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات العاجلة، فكفروا النعمة، واستكبروا وفسقوا عن أمر ربهم، وكانوا قوما مجرمين، أى مصرين على ارتكاب الجرائم والمنكرات، فحق عليهم العقاب الذي يستحقونه بسبب هذه السيئات.